الأربعاء، 5 نوفمبر 2008

عاتبني النبي صلى الله عليه وسلم

بين أمواج الحياة المتلاطمة وعلى جنبات الطريق الدنيوي لاحت هناك في الأفق فرصة لزيارة الحبيب.. خفق القلب ولهج اللسان لملاقاة الحبيب.. أخذت أعد العدة للقاء ولكنني وصلتُ متأخرًا، وليس من الذوق أن أزعجه، ولكن شوقي يقودني، فتمهلت وتصبرت حتى الفجر.

اللقاء الأول

ذهبت إليه وأخذت أهندم ملابسي، ولم أنسَ أن أتسوك ودخلت إليه، ومع كل خطوة أخطوها يزداد خفقان القلب، وترتسم علامات حب لقائه والحياء منه، وبرغم الزحام وكثرة المحبين، وقفت أمامه صلى الله عليه وسلم عبر فتحة في مقامه الشريف ونظرت إليه طويلاً وتأملت، وشعرْتُ وقتها أنه ينظرُ إليَّ فتبسمْتُ، ولكنه أدار وجهه عني ودبّ الحزن في قلبي.. لماذا أدرت َوجهك عني يا رسول الله وأنا قطعت كل هذه المسافات على شوق للقياك؟ وجاء الرد سريعًا.. صوت يهتف داخلي، أخذ يعلو ويعلو حتى ظننت أنه يُسمِع العالم أجمع: يا من وقفت بباب خير البشر.. لماذا تركت سنته؟؟ لماذا لم تنصر دينه؟؟ لماذا لم تعش بمنهجه؟؟

لم أدرِ ماذا أقول وبأي شيء أُجيب.. فلم أجد غير العبرات جوابًا.. أهو الندم أم الحياء أم الاستعطاف؟؟ لا أدري ولكنني أخذت أستحلفه بالله أن ينظر إليّ وأن يبتسم لي.. وازدحم المكان واضطررت إلى الخروج.

جبل يحبنا ونحبه

جبل أحد

وفي المساء ذهبت لجبل أُحُد ووقفت على جبل الرماة، وأصبح مسرح الأحداث مكشوفًا أمام عيني، وهنا تتجلى فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم وذكاؤه العسكري في وضع 50 من أمهر الصحابة فوق الجبل، وقال لهم: "لا تتركوا مكانكم ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير".

ولقد حاول سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه -وكان وقتها في جيش المشركين- الالتفاف حول جيش المسلمين تسع مرات، ولكن سهام الرماة كانت له بالمرصاد، ورأيتُ أسد الله يقاتل بضراوة، وما هي إلا لحظات وقف فيها سيدنا حمزة رضي الله عنه حتى تلقف ضربة وحشي وسقط شهيدًا بعد أن كاد يفتك بوحشي، ولما بدت علامات النصر تظهر للمسلمين بفرار جيش المشركين عصى الرماة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونزلوا من على الجبل، وبدءوا في جمع الغنائم والتفَّ سيدنا خالد بن الوليد من خلفهم، وصعد جبل الرماة، وأخذ يقتل في المسلمين وصاح صيحة تجمع على إثرها المشركون، وأثخنوا القتل في المسلمين، ووقف النبي صلى الله عليه وسلم يصيح بأعلى صوته حتى ينبه المسلمين الذين انكبوا على جمع الغنائم، فعرف المشركون مكانه وتوجهت إليه سهامهم، وهنا رأيت شهيدًا يمشي على الأرض، سيدنا طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه يتلقف السهام عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى شُلّت يمينه من سهمٍ اخترقها، ويُضرَب النبي صلى الله عليه وسلم على رأسه، ويسيل دمه الشريف -وأنا لا أحرك ساكنًا غير دموع تذرف- ويسرع سيدنا "أبو عبيدة بن الجراح" رضي الله عنه ويحاول أن يخرج المغفر من وجه الرسول صلى الله عليه وسلم بأسنانه وتحطمت أسنانه رضي الله عنه فداء للنبي صلى الله عليه وسلم، وما أروع ما قاله سيدنا "أنس بن النضر" رضي الله عنه عندما أُشيع مقتل النبي صلى الله عليه وسلم: "فما تصنعون بالحياة بعده! قوموا فموتوا على ما مات عليه!"، ثم استقبل القوم فقاتل حتى قُتل، ووُجد فيه بضع وثمانون ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم.

وبعد انتهاء المعركة وما حدث من قتل وتمثيل لجثث الصحابة الأطهار سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن سيدنا "سعد بن الربيع" رضي الله عنه، فوجدوه في الرمق الأخير، وقال لمن وجده كلمات عطرة: "أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنّي السلام، وقل له: إن سعد بن الربيع يقول جزاك الله عنا خير ما جُزي نبيٌّ عن أمته، وأبلغ قومك السلام، وقل لهم إن سعدًا يقول لكم إنه لا عذر لكم عند الله إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف". سيظل التاريخ يقف عاجزًا عن أن يأتي بمثل هؤلاء.

لقد هالني ما رأيت وما سمعت.. إن الرماة عصوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة، وكان القتل والتمثيل.. أتدّعي حبه فماذا قدمت له؟ ولماذا تعصي أمر النبي صلى الله عليه وسلم؟!

أسطوانة عائشة

ذهبت أتلمس مكانًا في روضة النبي صلى الله عليه وسلم فهو الذي قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".. ووسط الزحام وقفت أمام أسطوانة السيدة عائشة رضي الله عنها، وهذه الأسطوانة قد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم مكانها مصلى بعد تحويل القبلة مدة، ثم تحول إلى مصلاه، وكان أفاضل الصحابة والتابعين يفضلون الجلوس عندها.. صليتُ بها ركعتين؛ لعل اليد تأتي على اليد والوجه يلامس الوجه، وفتح الله عليّ بما شاء من دعاء.. شعرت وقتها بقربي من الله، وأخذت ألحّ على ربي بالدعاء.

منازل الرحمة العلية

البقيع

لم أشعر بالخوف ولا بوحشة القبور عند زيارة البقيع؛ لعلها رحمات تتنزل.
وقفت أمام قبر سيدنا عثمان رضي الله عنه: يا ذا النورين لماذا لم تترك الصحابة يدافعون عنك ويقفون في وجه من تربصوا بك؟؟ وكأنه قال لي: لا أحب أن يراق دم مسلم بالمدينة، ولا أحب أن يقتتل الناس بسببي!! تساءلت متعجبًا: وحدة المسلمين وحفظ دمائهم أهم من قتل خليفة رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟؟ فكأنه قال: إن الخليفة فرد واحد وإني صائم وأحب أن أفطر مع حبيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد تضاءلتُ أمام تضحياتك يا خليفة رسول الله، منذ أن عرفناك وما رأينا منك إلا كل تضحية وفداء بالمال والنفس والأهل.

ونظرت حولي فلم أجد غير عشرة آلاف صحابي بالبقيع.. فأين ذهب الباقي من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهم يوم حجة الوداع مائة ألف، فكأن سيدنا عثمان يجيبني: خرجوا يبلغون دعوة الله -عز وجل- ويفتحون الأمصار وينشرون الدين.. فأدركت حينها لمَ تركوا المدينة ومجاورة النبي صلى الله عليه وسلم!!.

وداع وعهد

وجاءت اللحظة التي كنْتُ أخشاها، لحظة الوداع والعهد.. وقفت أمامه صلى الله عليه وسلم، وهذه المرة أخشى أن يُدير وجهه عني، ولكن لقلبه الرحيم ولحبه لأمته وجدت منه نظرات ود وشفقة، وكأنه سامحني عما بدر مني من تقصير في حقه وحق هذا الدين العظيم الذي ضحى في سبيله هو وأصحابه الكرام.

وقفت هذه المرة ورأيت منه الرضا صلى الله عليه وسلم، وجاء ألم الفراق ممزوجًا بعهدٍ أن أسير على دربه، وأتحمل في سبيل دعوته كل المشاق، وأستعين بالله في تبليغ رسالته؛ حتى أكون من الذين قال فيهم الله عز وجل: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23) صدق الله العظيم.
________________________
هذه المقالة كتبتها يوم 16/5/2004 على موقع إسلام أون لاين.نت ...

ليست هناك تعليقات: